فصل: سنة أربع وثمانين ومائة وألف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» (نسخة منقحة)



.سنة أربع وثمانين ومائة وألف:

فيها ورد على علي بك الشريف عبد الله من أشراف مكة، وكان من أمره أنه وقع بينه وبين ابن عمه الشريف أحمد أخي الشريف مساعد منازعة في إمارة مكة بعد وفاة الشريف مساعد، فتغلب عليه الشريف أحمد واستقل بالإمارة، وخرج الشريف عبد الله هارباً وذهب إلى ملك الروم واستنجد به، فكتب له مكاتبات لعلي بك بالمعونة والوصية والقيام معه، وحضر إلى مصر بتلك المكتبات في السنة الماضية وكان علي بك مشتغلاً بتمهيد القطر المصري، ووافق ذلك غرضه الباطني، وهو طمعه في الاستيلاء على الممالك، فأنزله في مكان وأكرمه ورتب له كفايته، وأقام بمصر حتى تمم أغراضه بالقطر وخلص له قبلي وبحري، وقتل من قتله وأخرج من أخرجه، فالتفت عند ذلك إلى مقاصده البعيدة وأمر بتجهيز الذخائر والإقامات وعمل البقسماط الكثير حتى ملأوا منه المخازن ببولاق ومصر القديمة والقصور البرانية وبيوت الأمراء النمافي االخالية، ثم عبوا ذلك، وأرسل مع باقي الاحتياجات واللوازم من الدقيق والسمن والزيت والعسل والسكر والأجبان في البر والبحر واستكتب أصناف العساكر أتراكاً ومغاربة وشواماً ومتاولة ودروزاً وحضارمة ويمانية وسوداناً وحبوشاً ودلاة وغير ذلك، وأرسل منهم طوائف في المقدمات والمشاة أنزلوه من القلزم في المراكب وصحبتهم الجبخانات والمدافع وآلات الحرب، وخرجت التجريدة في شهر صفر بعد دخول الحجاج في تجمل زائد ومهيأ عظيم، وساري عسكرها محمد بك أبو الذهب وصحبته حسن بك ومصطفى بك وخلافهم.
وفي ثاني عشرين ربيع الأول وردت الأخبار من القطار الحجازية بوقوع حرابة عظيمة بين المصريين وعرب الينبع وخلافهم من قبائل العربان والأشراف، ووقعت الهزيمة على المذكورين وقتل وزير الينبع المتولي من طرف شريف مكة وقتل معه خلائق كثيرة.
وفي تاسع شهر ربيع الآخر وصل نجاب إلى مصر من الديار الحجازية وأخبر بدخول محمد بك ومن معه إلى مكة وانهزام الشريف أحمد وخروجه هارباً، ونهب المصرين دار الشريف ومن يلوذ به وأخذوا منها أشياء كثيرة من أمتعة وجواهر وأموال لها قدر، وجلس الشريف عبد الله في إمارة مكة ونزل حسن بك إلى بندرجدة وتولى إمارتها عوضاً عن الباشا الذي تولاها من طرف ملك الروم، ولذلك عرف بالجداوي، وأقام محمد بك أياماً بمكة ثم عزم على المسير والرجوع إلى مصر، ووصلت الأخبار والبشائر بذلك وأرسلت إليه الملاقاة بالعقبة وخلافها، فلما ورد الخبر بوصوله إلى العقبة خرجت الأمراء إلى بركة الحاج والدار الحمراء لانتظار قدومه فوصل في أوائل شهر رجب ودخل إلى مصر في ثامنه في موكب عظيم، وأتت إليه العلماء والأعيان للسلام وقصدته الشعراء بالقصائد والتهاني.
وفي منتصف رجب المذكور، عزل علي بك عبد الرحمن أغا مستحفظان وقلد عوضه سليم أغا الوالي وقلد عوض الوالي موسى أغا من أتباعه، وأمر عبد الرحمن أغا بالسفر إلى ناحية غزة وهي أول حركاته إلى جهة الشام، وأمره بقتل سليط شيخ عربان غزة، فلم يزل يتحيل عليه حتى قتله هو وأخوته وأولاده، وكان سليط هذا من العصاة العتاة له سير وأخبار.
وفيه زاد اهتمام علي بك بالتحرك على جهة الشام، واستكثر من جمع طوائف العساكر وعمل بالقسماط والبارود والذخائر والمؤن وآلات الحرب، وأمر بسفر تجريدة وأميرها إسمعيل بك وصحبته علي بك الطنطاوي وعللي بك الحبشي، فبرزوا إلى جهة العادلية وخرجوا بما معهم من طوائف العسكر والمماليك والأحمال والخيام والجباخانات والعربات والضوبة وقرب الماء الكثيرة على الجمال والكرارات والمطابخ والطبول والزمور والنقاقير وغير ذلك، فلما تكامل خروجهم أقاموا بالعادلية أياماً حتى قضوا لوازمهم وارتحلوا وسافروا إلى جهة الشام.
وفي حادي عشرينه برزت تجريدة أخرى وعليها سليمان بك وعمر كاشف وحملة كثيرة من العساكر، فنزلوا من طريق البحر على دمياط.
وفي عاشر شهر القعدة وردت أخبار من جهة الشام وأشيع وقوع حرابات بينهم وبين حكام الشام وأولاد العظم.
وفي منتصف خرجت تجريدة أخرى وسافر على طريق البر على النسق.
وفي سابع عشره طلب علي بك حسن أغا تابع الوكيل والروزنامجي وباش قلفة وإسمعيل أغا الزعيم وآخرين وصادرهم في نحو أربعمائة كيس بعد ما عوفهم أياماً.
وفي أواخره عمل علي بك دراهم على القرى وقرر على كل بلد مائة ريال وثلاثمائة ريال حق طريق، فضجت الناس من ذلك وطلب من النصارى القبط مائة ألف ريال، ومن اليهود أربعين ألفاً وقبضت جميعها في أسرع وقت.

.من مات في هذه السنة ممن له ذكر:

مات الشيخ العمدة الفاضل الكامل الأديب الماهر الناظم الناثر الشيخ عبد الله بن عبد الله بن سلامة الأدكاوي المصري الشافعي الشهير بالمؤذن، ولد بادكو وهي قرية قرب رشيد سنة 1104، كما أخبر من لفظه، وبها حفظ القرآن، وورد إلى مصر فحضر دروس علماء عصره وأدرك الطبقة الأولى واشتهر بفن الأدب، وانضوى إلى فخر الأدباء في عصره السيد علي أفندي برهان زاده نقيب السادة الأشراف، فأنزله عنده في إكرام واحتفل به وكفاه المؤنة من كل وجه، وصار يعاطيه كؤوس الآداب ويصافيه بمطارحة أشهى من ارتشاف الرضاب، وحج بصحبته بيت الله الحرام وزار قبر نبيه عليه الصلاة والسلام وذلك سنة 1147، وعاد إلى مصر وأقبل على تحصيل الفنون الأدبية، فنظم ونثر ومهر وبهر ورحل إلى رشيد وفوة والإسكندرية مراراً، واجتمع على أعيان كل منها وطارحهم ومدحهم، وفي سنة تسع وثمانين رأيت من نظمه بيتين بخطه في جدار جامع بن نصر الله بقوة تاريخ كتابتهما سنة خمس وأربعين، وبعد وفاة السيد النقيب تزوج وصار صاحب عيال، وتنقلت به الأحوال وصار يتأسف على ما سلف من عيشه الماضي في ظل ذلك السيد قدس سره، فلجأ إلى أستاذ عصره الشيخ الشبراوي ولازمه واعتنى به وصار لا ينفك عنه ومدحه بغرر قصائده، وكان يعترف بفضله ويحترمه، ولما توفي انتقل إلى شيخ وقته الشمس الحنفي فلازمه سفراً وحضراً ومدحه بغرر قصائده فحصلت له العناية والإعانة وواساه بما به حصلت الكفاية والصيانة، وله تصانيف كلها غرر ونظم نظامه عقود الدرر، فمنها الدرة الفريدة والمنح الربانية في تفسير آيات الحكم العرفانية، والقصيدة للزدية في مدح خير البرية ألفها لعلي باشا الحكيم، ومختصر شرح بانت سعاد للسيوطي، والفوائح الجنائية في المدائح الرضوانية جمع فيها أشعار المادحين للمذكور، ثم أورد في خاتمتها ماله من الأمداح فيه نظماً ونثراً، وهداية المتهومين في كذب المنجمين، والنزهة الزهية بتضمين الرجبية نقلها من الفرائض إلى الغزل، وعقود الدرر في أوزان الأبحر الستة عشر التزم في كل بيت منها الاقتباسات الشريفة والدر الثمين في محاسن التضمين، وبضاعة الأريب في شعر الغريب وذيلها بذيل يحكي دمية القصر، وله المقامة التصحيفية والمقاومة القمذية في المجون، وله تخميس بانت سعاد صدرها بخطبة بديعة وجعلها تأليفاً مستقلاً، وديوانه المشهور على حروف التهجي وغير ذلك، وقد كتب بخطه الفائق كثيراً من الكتب الكبار ودواوين الأشعار وكل عدة أشياء من غرائب الأسفار، رأيت من ذلك كثيراً، وقاعدة خطه بين أهل مصر مشهورة لا تخفى، ورأيت مما كتب كثيراً فمن الدواوين ديوان حسان رضي الله عنه رأيته بخطه وقد أبدع في تنميقه وكتب على حواشيه شرح الألفاظ الغريبة، ونزهة الألباب الجامع لفنون الآداب، وله مطارحات لطيفة مع شعراء عصره والواردين على مصر، ولم يزل على حاله حتى صار أوحد زمانه وفريد عصره وأوانه، ولما توفي الأستاذ الحنفي اضمحل حاله ولعب بلباله واعترته الأمراض ونصب روض عزه وغاض وتعلل مدة أيام حتى وافاه الحمام في نهار الخميس خامس جمادى الأولى من السنة، وأخرج بصباحه وصلى عليه بالأزهر ودفن بالمجاورين فسرب تربة الشيخ الحنفي، وفي سنة ثلاث وسبعين ومائة وألف، لما اختلفت خدام المشهد النفيسي، وكبيرهم إذ ذاك الشيخ عبد اللطيف، في أمر العنز، وذلك أنهم أظهروا عنزاً صغيرة مدرة زعموا أن جماعة من الأسرى ببلاد الإفرنج توسلوا بالسيدة نفيسة وأحضروا تلك العنز وعزموا على ذبحها في ليلة يجتمعون فيها يذكرون ويدعون ويتوسلون في خلاصهم ونجاتهم من الأسر، فاطلع عليم الكافر فزجرهم وسبهم ومنعهم من ذبح العنز، وبات تلك الليلة فرأى رؤيا حالته، فلما أصبح أعتقهم وأطلقهم وأعطاهم دراهم وصرفهم مكرمين، ونزلوا في مركب وحضروا إلى مصر وصحبتهم تلك العنز، وذهبوا إلى المشهد النفيسي بتلك العنز وذكروا في تلك العنز غير ذلك من اختلافهم وخورهم كقولهم أنهم يوم كذا أصبحوا فوجدوها عند المقام أو فوق المنارة، وسمعوها تتكلم، أو أن السيدة تكلمت وأوصت عليها وسمع الشيخ المذكور كلامها من داخل القبر، وأبرزها للناس وأجلسها بجانبه ويقول للناس ما يقوله من الكذب والخرافات التي يستجلب بها الدنيا، وتسامع الناس بذلك فأقبل الرجال والنساء من كل فج لزيارة تلك العنزة وأتوا إليها بالنذور والهدايا، وعرفهم أنها لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق وتشرب ماء الورد والسكر المكرر ونحو ذلك، فأتوه بأصناف ذلك بالقناطير، وعمل النساء للعنز القلائد الذهب والأطواق والحلي ونحو ذلك، وافتتنوا بها، وشاع خبرها في بيوت الأمراء وأكابر النساء وأرسلن على قدر مقامهن من النذور والهدايا، وذهبن لزيارتها ومشاهدتها وازدحمن عليها، فأرسل عبد الرحمن كتخدا إلى الشيخ عبد اللطيف المذكور والتمس منه حضوره إليه بتلك العنز ليتبرك بها هو وحريمه، فركب المذكور بغلته وتلك العنز في حجره ومعه طبول وزمور وبيارق ومشايخ وحوله الجم لغفير من الناس، ودخل بها بيت الأمير المذكور على تلك الصورة، وصعد بها إلى مجلسه وعنده الكثير من الأمراء والأعيان، فزارها وتملس بها ثم أمر بإدخالها إلى الحريم ليتبركن بها، وقد كان أوصى الكلارجي قبل حضوره بذبحها وطبخها، فلما أخذوها ليذهبوا بها إلى جهة الحريم أدخلوها إلى المطبخ وذبحوها وطبخها قيمة وحضر الغداء وتلك العنز في ضمنه، فوضعوها بين أيديهم وأكلوا منها والشيخ عبد اللطيف كذلك صار يأكل منها والكتخدا يقول: كل يا شيخ عبد اللطيف من هذا الرميس السمين، فيأكل منها ويقول: والله إنه أطيب ومستو ونفيس، وهو لا يعلم أنه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون، فلما فرغوا من الأكل وشربوا القهوة وطلب الشيخ العنز فعرفه الأمير أنها هي التي كانت بين يديه في الصحن وأكلها فبهت فبكته الأمير وربخه وأمره بالانصراف وأن يوضع جلد العنز على عمامته ويذهب به كما جاء بجمعيته، وبين يديه الطبول والأشاير ووكل به من أوصله محله على تلك الصورة ولم يزل المترجم حتى تعلعل بالأمراض والأسقام واضمحل منه الجسم والقوى بالآلام حتى وافاه الحمام في يوم الخميس خامس جمادى الأولى من السنة رحمه الله، وابنه العلامة السيد أحمد المعروف بكتيكت مفتي الشافعية بثغر سكندرية والسيد هلال الكتبي توفيا بعده بسنين، والشيخ صالح الصحاف موجود مع الأحياء أعانه الله على وقته. ا لا تأكل إلا قلب اللوز والفستق وتشرب ماء الورد والسكر المكرر ونحو ذلك، فأتوه بأصناف ذلك بالقناطير، وعمل النساء للعنز القلائد الذهب والأطواق والحلي ونحو ذلك، وافتتنوا بها، وشاع خبرها في بيوت الأمراء وأكابر النساء وأرسلن على قدر مقامهن من النذور والهدايا، وذهبن لزيارتها ومشاهدتها وازدحمن عليها، فأرسل عبد الرحمن كتخدا إلى الشيخ عبد اللطيف المذكور والتمس منه حضوره إليه بتلك العنز ليتبرك بها هو وحريمه، فركب المذكور بغلته وتلك العنز في حجره ومعه طبول وزمور وبيارق ومشايخ وحوله الجم لغفير من الناس، ودخل بها بيت الأمير المذكور على تلك الصورة، وصعد بها إلى مجلسه وعنده الكثير من الأمراء والأعيان، فزارها وتملس بها ثم أمر بإدخالها إلى الحريم ليتبركن بها، وقد كان أوصى الكلارجي قبل حضوره بذبحها وطبخها، فلما أخذوها ليذهبوا بها إلى جهة الحريم أدخلوها إلى المطبخ وذبحوها وطبخها قيمة وحضر الغداء وتلك العنز في ضمنه، فوضعوها بين أيديهم وأكلوا منها والشيخ عبد اللطيف كذلك صار يأكل منها والكتخدا يقول: كل يا شيخ عبد اللطيف من هذا الرميس السمين، فيأكل منها ويقول: والله إنه أطيب ومستو ونفيس، وهو لا يعلم أنه عنزه وهم يتغامزون ويضحكون، فلما فرغوا من الأكل وشربوا القهوة وطلب الشيخ العنز فعرفه الأمير أنها هي التي كانت بين يديه في الصحن وأكلها فبهت فبكته الأمير وربخه وأمره بالانصراف وأن يوضع جلد العنز على عمامته ويذهب به كما جاء بجمعيته، وبين يديه الطبول والأشاير ووكل به من أوصله محله على تلك الصورة ولم يزل المترجم حتى تعلعل بالأمراض والأسقام واضمحل منه الجسم والقوى بالآلام حتى وافاه الحمام في يوم الخميس خامس جمادى الأولى من السنة رحمه الله، وابنه العلامة السيد أحمد المعروف بكتيكت مفتي الشافعية بثغر سكندرية والسيد هلال الكتبي توفيا بعده بسنين، والشيخ صالح الصحاف موجود مع الأحياء أعانه الله على وقته.
ومات الإمام الفصيح البارع الفقيه الشيخ جعفر بن حسن بن عبد الكريم ابن محمد بن رسول الحسيني البرزنجي المدني مفتي الشافعية بها، ولد بالمدينة وأخذ عن والده والشيخ محمد حيوة السندي، وأجازه السيد مصطفى البكري، وكان يقرأ دروس الفقه داخل باب السلام، وكان عجيباً في حسن الإلقاء والتقرير ومعرفة فروع المذهب، تولى الإفتاء والخطابة مدة تزيد على عشرين سنة، كان قوالاً بالحق أماراً بالمعروف، واجتمع به الشيخ سليمان بن يحيى شيخ المشايخ وذكره في رحلته وأثنى عليه، وله مؤلفات منها البر العاجل بإجابة الشيخ محمد غافل، والقبض اللطيف بإجابة نائب الشرع الشريف، وفتح الرحمن على أجوبة السيد رمضان، توفي في شهور هذه السنة قيل مسموماً والله أعلم.
ومات الولي العارف أحد المجاذيب الصادقين الأستاذ الشيخ أحمد ابن حسن النشرتي الشهير بالعريان، كان من أرباب الأحوال والكرامات، ولد في أول القرن وكان أول أمره الصحو ثم غلب عليه السكر فأدركه المحو، وكانت له في بدايته أمور غريبة، وكان كل من دخل عليه زائراً يضربه بالجريد. وكان ملازماً للحج في كل سنة، ويذهب إلى موالد سيدي أحمد البدوي المعتادة. وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وإذا قرأ قارئ بين يديه وغلط يقول له ق فإنك غلطت، وكان رجلاً جلالياً يلبس الثياب الخشنة وهي جبة صوف وعمامة صوف حمراء يعتم بها على لبدة من صوف ويركب بغلة سريعة العدو، وملبسه دائماً على هذه الصفة شتاء وصيفاً وكان شهير الذكر يعتقد الخاصة والعامة وتأتي الأمراء والأعيان لزيارته والبرك به، ويأخذ منهم دراهم كثيرة ينفقها على الفقراء المجتمعين عليه، وأنشأ مسجده تجاه الزاهد جوار داره، وبنى بجواره صهريجاً وعمل لنفسه مدفناً وكذلك لأهله وأقاربه وأتباعه، واتحد به شيخنا السيد أحمد العروسي واختص به اختصاصاً زائداً، فكان لا يفارقه سفراً ولا حضراً وزوجه إحدى بناته وهي أم أولاده وبشره بمشيخة الجامع الأزهر والرئاسة، فعادت عليه بركته وتحققت بشارته وكان مشهوراً بالاستشراف على الخواطر، توفي رحمه الله في منتصف ربيع الأول وصلى عليه بالأزهر ودفن بقبره الذي أعده لنفسه في مسجده، نفعنا الله به وبعباده الصالحين.
ومات الفقيه الصالح الشيخ علي بن أحمد بن عبد اللطيف البشبيشي الشافعي، روى عن أبيه عن البابلي، توفي في غاية ربيع الثاني من السنة.
ومات الشيخ المبجل الصالح المفضل الدرويش الشيخ أحمد المولوي شيخ المولوية بتكية المظفر وكان إنساناً حسناً لا بأس به مقبلاً على شأنه منجمعاً عن خلطة كثير من الناس إلا بحسب الدواعي، توفي في سابع عشرين ربيع الآخر من السنة ولم يخلف بعده مثله.
ومات المقدام الخير الكريم صاحب الهمة العالية والمروءة التامة شمس الدين حمودة شيخ ناحية برمه بالمنوفية، أخذ عن الشيخ الحفني وكان كثير الاعتقاد فيه والإكرام له ولأتباعه، وله حب في أهل الخير واعتقاد في أهل الصلاح ويكرم الوافدين والضيفان. وكان جميل الصورة طويلاً مهيباً حسن الملبس والمركب. توفي يوم الخميس حادي عشر رجب من السنة، وخلف أولاداً منهم محمد الحفني الذي سماه على اسم الشيخ لمحبته فيه وأحمد وشمس الدين.
ومات بقية السلف ونتيجة الخلف الشيخ أحمد سبط الأستاذ الشيخ عبد الوهاب الشعراني وشيخ السجادة، كان إنساناً حسناً وقوراً مالكاً منهج الاحتشام والكمال منجماً عن خلطة الناس إلا بقدر الحاجة. توفي يوم السبت ثامن صفر من السنة، وخلف ولده سيدي عبد الرحمن مراهقاً تولى بعده على السجادة مع مشاركة قريبه الشيخ أحمد الذي تزوج بوالدته.
ومات الإمامة العلامة الفقيه الصالح الناسك صائم الدهر الشيخ محمد الشوبري الحنفي، تفقه على الشيخ الاسقاطي والشيخ سعودي، وبعد وفاة المذكورين لازم الشيخ الوالد وتلقى عنه كثيراً، وكان إنساناً حسناً وجيهاً لا يتداخل فيما لا يعنيه مقبلاً على شأنه صائم الدهر وملازماً لداره بعد حضور درسه، وكان بيته بقنطرة الأمير حسين مطلاً على الخليج.

.سنة خمس وثمانين ومائة وألف:

أخرج علي بك تجريدة عظيمة وسر عسكرها وأميرها محمد بك أبو الذهب وأيوب بك ورضوان بك وغيرهم كشاف وأرباب مناصب ومماليكهم وطوائفهم وأتباعهم وعساكر كثيرة من المغاربة والترك والهنود واليمانية والمتاولة، وخرجوا في تجمل زائد واستعداد عظيم ومهيأ كبير، ومعهم الطبول والزمور والذخائر والأحمال والخيام والمطابخ والكرارات والمدافع والجبخانات ومدافع الزنبلك على الجمال، وأجناس العالم ألوفاً مؤلفة، وكذلك أنزلوا الاحتياجات والأثقال وشحنوا بها السفن وسافرت من طريق دمياط في البحر. فلما وصلوا إلى الديار الشامية فحاصروا يافا وضيقوا عليها حتى ملكوها بعد أيام كثيرة، ثم توجهوا إلى باقي المدن والقرى وحاربهم النواب والولاة وهمزموهم وقتلوهم وفروا من وجوههم واستولوا على المماليك الشامية إلى حد حلب، ووردت البشائر بذلك، فنودي بالزينة فزينت مصر وبولاق ومصر العتيقة زينة عظيمة ثلاثة أيام بلياليها، وتفاخروا في ذلك إلى الغاية وعملت وقدات وأحمال قناديل وشموع بالأسواق وسائر الجهات وعملوا ولائم ومغناي وآلات وطبولاً وسنكاً وحراقات وغير ذلك، وذلك في شهر ربيع أول من السنة. وتعاظم علي بك في نفسه، ولم يكتف بذلك فأرسل إلى محمد بك يأمره بتقليد الأمراء المناصب والولايات على البلاد التي افتتحوها وملكوها، وإن يستمر في سيره ويتعدى الحدود ويستولي على المماليك إلى حيث شاء، وهو يتابع إليه إرسال الإمدادات واللوازم والاحتياجات. ولا يثنون عنانهم عما يأمرهم به. فعند ذلك جمع محمد بك أمراءه وخشداشينه الكبار في خلوة وعرض عليهم الأوامر، فضاقت نفوسهم وسئموا الحرب والقتال والغربة، وذلك ما في نفس محمد بك أيضاً. ثم قال لهم: ما تقولون؟ قالوا: وما الذي نقوله والرأي لك فأنت كبيرنا ونحن تحت أمرك وإشارتك ولا نخالفك فيما تأمر به. فقال: ربما يكون رأيي مخالفاً لأمر أستاذنا. قالوا: ولو مخالفاً لأمره فنحن جميعاً لا نخرج عن أمرك وإشارتك فقال: لا أقول لكم شيئاً حتى نتحالف جميعاً ونتعاهد على الرأي الذي يكون بيننا. ففعلوا ذلك وتعاهدوا وحلفوا على السيف والكتاب. ثم أنه قال لهم: إن أستاذكم يريد أن تقطعوا أعماركم في الغربة والحرب والأسفار والبعد عن الأوطان وكلما فرغنا من شيء فتح علينا غيره، فرأيي أن نكون على قلب رجل واحد ونرجع إلى مصر ولا نذهب إلى جهة من الجهات وقد فرغنا من خدمتنا، وإن كان يريد غير ذلك من المماليك يولي أمراء غيرنا ويرسلهم إلى ما يريد ونحن يكفينا هذا القدر ونرتاح في بيوتنا وعند عيالنا. فقالوا جميعاً: ونحن على رأيك. وأصبحوا راحلين وطالبين إلى مصر، فحضروا في أواخر شهر رجب على خلاف مراد مخدومهم، وبقي الأمر على السكوت. ثم أن علي بك قلد أيوب بك إمارة جرجا وقضى أشغاله وسافر إلى الصعيد بطائفته وأتباعه. وانقضى شهر شعبان ورمضان وعلي بك مصمم على رجوع محمد بك إلى جهة الشام. وذلك مصمم على خلاف ذلك. وبدت بينهما الوحشة الباطنية. فلما كان ليلة رابع شهر شوال بيت علي بك مع علي بك الطنطاوي وخلافه واتفق معهم على غدر محمد بك، فركبوا عليه ليلاً وأحاطوا بداره ووقفه له العساكر بالأسلحة في الطرق، فركب في خاصته وخرج من بينهم وذهب إلى ناحية البساتين وارتحل إلى الصعيد. فحضر إليه بعض الأمراء أصحاب المناصب وعلي كاشف تابع سليمان أفندي كاشف شرق أولاد يحيى وقدموا له ما معهم من الخيام والمال والاحتياجات. ولم يزل في سيره حتى وصل إلى جرجا، واجتمع عليه أيوب بك خشداشه وأظهر له المصافاة والمؤاخاة، وقدم له هدايا وخيولاً وخياماً فلم يلبث إلا وقد أحضر عيون محمد بك يأمره ويستحثه على عمل الحيلة وقتل محمد بك بأي وجه أمكنه، ويعده إمارته وبلاده وغير ذلك. فلما قرأ المراسلة وفهم مضمونها أكرم الرجل وقال له: تذهب إليه بالكتاب وأثني بجوابه ولك مزيد الإكرام، فذهب ذلك الساعي وأوصل الكتاب إلى أيوب بك وطلب منه رد الجواب وأعطاه الجواب، وذكر فيه أنه مجتهد في تتميم الغرض ومترقب حصول الفرصة. فحضر به إلى محمد بك. فعند ذلك استعد محمد بك وتحقق خيانته ونفاقه، فاتفق مع خاصته وأمرائه بالاستعداد والوثوب، وأنه إذا حضر إليه أيوب بك أخذ أرباب المناصب نظراءهم وتحفظوا عليهم. فلما حضر في صبحها أيوب بك جلس معه في خلوة وأخذ كل من الخازندار والكتخدا والجوخدار والسلحدار نظراءهم من جماعة محمد بك، ثم قال محمد بك يخاطب أيوب بك: يا هل ترى نحن مستمرون على الأخوة والمصافاة والصداقة والعهد واليمين الذي تعاقدنا عليه بالشام؟ قال: نعم وزيادة. قال: ومن نكث ذلك وخان اليمين ونقض العهد؟ قال: يقطع لسانه الذي حلف به، ويده التي وضعها على المصحف. فعند ذلك قال له: بلغني أنه أتاك كتاب من أستاذنا علي بك. فجمد ذلك فقال: لعل ذلك صحيح وكتبت له الجواب أيضاً. قال: لم يكن أبداً ولو أتاني منه جواب لأطلعتك عليه ولا يصح أني أكتمه عنك أو أرد له جواباً. فعند ذلك أخرج له الجواب من جيبه وأحضر إليه الرسول فسقط في يده، وأخذ يتنصل ببارد العذر. فعند ذلك قال له: حينئذ لا تصح مرافقتك معي وقم فاذهب إلى سيدك وأمر بالقبض عليه، وأنزلوه إلى المركب وأحاط بوطاقه وأسبابه، وتفرقت عنه جموعه. فلما صار وحيداً في قبضته أحضر عبد الرحمن أغا وكان إذ ذاك بناحية قبلي وانضم إلى محمد بك فقال له: اذهب إلى أيوب بك واقطع يده ولسانه كما حكم على نفسه بذلك. فأخذ معه المشاعلي وحضر إليه في السفينة وقطعوا يمينه، ثم شبكوا في لسانه سنارة وجذبوه ليقطعوه فتخلص منهم وألقى بنفسه في البحر، فغرق ومات. وكان قصد محمد بك أن يفعل به ذلك ويرسله على هذه الصورة إلى سيده بمصر. ثم إنهم أخرجوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه. فعندما وقع ذلك أقبلت الأمراء والأجناد المتفرقون بالأقاليم على محمد بك وتحققوا عند ذلك الخلاف بينه وبين سيده، وقد كانوا متجمعين عن الحضور إليه ويظنون خلاف ذلك. وحضر إليه جميع المنافي وأتباع القاسمية والهوارة الذين شردهم علي بك وسلب نعمتهم، فأنعم عليهم وأكرمهم وتلقاهم بالبشاشة والمحبة واعتذر لهم وواساهم وقلدهم الخدم والمناصب، وهم أيضاً تقيدوا بخدمته وبذلوا جهدهم في طاعته. ووصلت الأخبار بذلك إلى مصر وحضر إليه كثير من مماليك أيوب بك وأتباعه سوى من انضم منهم والتجأ إلى محمد بك وأتباعه، فعند ذلك نزل بعلي بك من القهر والغيظ المكظوم ما لا يوصف، وشرع في تشهيل تجريدة عظيمة وأميرها وسر عسكرها إسمعيل بك، واحتفل بها احتفالاً كثيراً، وأمر بجمع أصناف العساكر واجتهد في تنجيز أمرها في أسرع وقت، وسافروا براً وبحراً في أواخر ذي العقدة. فلما التقى الجمعان خامر إسمعيل بك وانضم بمن معه من الجموع إلى محمد بك وصاروا حزباً واحداً، ورجع الذين لم يميلوا وهم القليل إلى مصر. فعند ذلك اشتد الأمر بعلي بك ولاحت على دولته لوائح الزوال وكاد يموت من الغيظ والقهر، وقلد سبع صناجق والكل مزلقون وسماهم أهل مصر السبع بنات وهم مصطفى بك وحسن بك ومراد بك وحمزة بك ويحيى بك وخليل بك كوسه ومصطفى بك أود باشه، وعمل لهم برقاً وداقماً ولوزام وطبلخانات في يومين، وضم إليهم عساكر وطوائف ومماليك وأتباعاً، وبرز بنفسه إلى جهة البساتين وشرع في تشهيل تجريدة أخرى وأميرها علي بك الطنطاوي، وأخرج الجبخانات والمدافع الكثيرة وأمر بعمل متاريس من البحر إلى جهة الجبل وانقضت السنة. م من جماعة محمد بك، ثم قال محمد بك يخاطب أيوب بك: يا هل ترى نحن مستمرون على الأخوة والمصافاة والصداقة والعهد واليمين الذي تعاقدنا عليه بالشام؟ قال: نعم وزيادة. قال: ومن نكث ذلك وخان اليمين ونقض العهد؟ قال: يقطع لسانه الذي حلف به، ويده التي وضعها على المصحف. فعند ذلك قال له: بلغني أنه أتاك كتاب من أستاذنا علي بك. فجمد ذلك فقال: لعل ذلك صحيح وكتبت له الجواب أيضاً. قال: لم يكن أبداً ولو أتاني منه جواب لأطلعتك عليه ولا يصح أني أكتمه عنك أو أرد له جواباً. فعند ذلك أخرج له الجواب من جيبه وأحضر إليه الرسول فسقط في يده، وأخذ يتنصل ببارد العذر. فعند ذلك قال له: حينئذ لا تصح مرافقتك معي وقم فاذهب إلى سيدك وأمر بالقبض عليه، وأنزلوه إلى المركب وأحاط بوطاقه وأسبابه، وتفرقت عنه جموعه. فلما صار وحيداً في قبضته أحضر عبد الرحمن أغا وكان إذ ذاك بناحية قبلي وانضم إلى محمد بك فقال له: اذهب إلى أيوب بك واقطع يده ولسانه كما حكم على نفسه بذلك. فأخذ معه المشاعلي وحضر إليه في السفينة وقطعوا يمينه، ثم شبكوا في لسانه سنارة وجذبوه ليقطعوه فتخلص منهم وألقى بنفسه في البحر، فغرق ومات. وكان قصد محمد بك أن يفعل به ذلك ويرسله على هذه الصورة إلى سيده بمصر. ثم إنهم أخرجوه وغسلوه وكفنوه ودفنوه. فعندما وقع ذلك أقبلت الأمراء والأجناد المتفرقون بالأقاليم على محمد بك وتحققوا عند ذلك الخلاف بينه وبين سيده، وقد كانوا متجمعين عن الحضور إليه ويظنون خلاف ذلك. وحضر إليه جميع المنافي وأتباع القاسمية والهوارة الذين شردهم علي بك وسلب نعمتهم، فأنعم عليهم وأكرمهم وتلقاهم بالبشاشة والمحبة واعتذر لهم وواساهم وقلدهم الخدم والمناصب، وهم أيضاً تقيدوا بخدمته وبذلوا جهدهم في طاعته. ووصلت الأخبار بذلك إلى مصر وحضر إليه كثير من مماليك أيوب بك وأتباعه سوى من انضم منهم والتجأ إلى محمد بك وأتباعه، فعند ذلك نزل بعلي بك من القهر والغيظ المكظوم ما لا يوصف، وشرع في تشهيل تجريدة عظيمة وأميرها وسر عسكرها إسمعيل بك، واحتفل بها احتفالاً كثيراً، وأمر بجمع أصناف العساكر واجتهد في تنجيز أمرها في أسرع وقت، وسافروا براً وبحراً في أواخر ذي العقدة. فلما التقى الجمعان خامر إسمعيل بك وانضم بمن معه من الجموع إلى محمد بك وصاروا حزباً واحداً، ورجع الذين لم يميلوا وهم القليل إلى مصر. فعند ذلك اشتد الأمر بعلي بك ولاحت على دولته لوائح الزوال وكاد يموت من الغيظ والقهر، وقلد سبع صناجق والكل مزلقون وسماهم أهل مصر السبع بنات وهم مصطفى بك وحسن بك ومراد بك وحمزة بك ويحيى بك وخليل بك كوسه ومصطفى بك أود باشه، وعمل لهم برقاً وداقماً ولوزام وطبلخانات في يومين، وضم إليهم عساكر وطوائف ومماليك وأتباعاً، وبرز بنفسه إلى جهة البساتين وشرع في تشهيل تجريدة أخرى وأميرها علي بك الطنطاوي، وأخرج الجبخانات والمدافع الكثيرة وأمر بعمل متاريس من البحر إلى جهة الجبل وانقضت السنة.